الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

حلقة من مسلسل القسوة

تزامنت مقالة د.محمد المخزنجي الأخيرة بعنوان "حتى الجنون تدهور" ، مع مقالة أ/فهمي هويدي عن المواطن الذي شاء القدر له أن يتم القبض عليه دون تهمة حقيقية موجهة إليه ، مما جعله يواجه ـ بعد خروجه ـ أهوالاً عديدة وصعوبات ليس هو فقط ولكن عائلته ، هل من الطبيعي أن يحتفظ هذا المواطن بسلامه واستقراره النفسي ، هل من الممكن أن تلد مصر مبدعين ومبتكرين في ظل كل هذا القهر والظلم وكبت الحريات ؟، كيف يشعر أبناء المواطن المذكور ومن مثله بالانتماء لوطن لا يشعرون فيه بالكرامة بل على العكس يتذوقون فيه كل يوم ألوان مختلفة من العذاب النفسي ، وأقرب مثال هو نتيجة الثانوية العامة لهذا العام ..
إن العنف الذي يُمارس ضد المواطن بشكل يومي في بلادنا أحد مظاهر القسوة والعنف المبالغ فيهما واللذان سادا كل نواحي حياتنا ، ولقد رأيت بعيني وكنت شاهدة منذ فترة قصيرة على واحدة من هذه المظاهر البشعة والضحية عامل مسكين يكافح من أجل لقمة العيش وهو راض بأجره المتواضع ، دائم الشكر لله على المر قبل الحلو ، سأسرد هذه الحادثة لأضمها إلى السجل الحافل لحوادث العنف والقهر التي من الممكن جدا أن تقلب حياة مواطن عادي ومسالم رأساً على عقب وربما يتحول بعدها إلى مجرم أو إرهابي أو قاطع طريق .
والقصة كالتالي:
هو عامل بسيط عمره 42 عاما ،يعمل في البلدية باليومية وظيفته جمع القمامة ولأن أجره اليومي لا يتعدى خمس جنيهات ولتمتعه بالأمانة والحياء ، تقصده سيدات الحي ( وهم من الطبقة الميسورة ) لتنظيف بيوتهن و سلالم ومداخل العمارات ، وأحياناً يغسل سيارات ، ولأننا ممن يتعاملون معه بشكل يومي ومنذ حوالي 10 سنوات فقد عرفناه جيداً ولم يسبق أن فقد شيء لا من منزلنا ولا من المنازل المجاورة التي يدخلها بشكل يومي .
ولأننا نعيش في بلد أصبح كالغابة لا يحظى فيها الغلابة والضعفاء بالحماية من الوحوش الكاسرة ، فقد شاء القدر لهذا العامل أن يكون واحداً من ضحايا الظلم والعنف والقهر ، فمنذ حوالي أسبوعين فوجئنا به أمامنا في حالة يُرثى لها ، كان وجهه وملابسه مضرجين بالدماء وأنفه ينزف وعينيه بهما كدمات زرقاء وأذنيه متورميتن وعندما سألناه ماذا حدث لك ، كانت الإجابة مؤلمة وموجعة .
كان يمر على مجموعة من المساكن المتجاورة في حي مجاور ، ناداه أحد سكان إحدى هذه المساكن وهو ابن السيدة صاحبة العقار ، كان العامل لديهم بالأمس ينظف لهم منزلهم ، فصعد إليه ، وهنا فوجيء العامل بالشاب يسأله عن ساعتين يد فقدا بالأمس ، رد قائلاً بأنه لم ير أي ساعات ، كرر الشاب السؤال فأقسم العامل أ،ه لم ير ساعات ، عندها انشقت الأرض عن ثلاثة من البلطجية تعاونوا مع الشاب الفاسد على العامل وظلوا يضربونه لمدة ساعتين ، وعندما لم يحصلوا منه على الاعتراف بالسرقة جاءوا بإيصالات أمانة وبصامة وبصموه بالإكراه عليها وأخذوا بطاقته الشخصية ليس هذا فقط بل جائت أم الشاب بحقيبة مجوهراتها أمامه وهددته بأنها ستخفيها وتتهمه بالباطل بسرقتها !!!
حكى العامل قصته وأجهش بعدها ببكاء حار قائلاً:" والله لم أسرق ساعات ، كرامتي ضاعت أروح لمراتي واقوللها ايه لما تسألني ولا اولادي ازاي حارفع عيني في عينيهم بعد اللي جرالي النهارده ، دانا طول عمري ماشي جنب الحيط وعمري ما طمعت في حاجة مش بتاعتي ، انتوا بتسيبوا فلوسكو قدامي عمري ايدي ماتمدت على أي حاجة حسبي الله ونعم الوكيل"
نصحه بعض السكان بتحرير محضر بالقسم ، وهناك حدث فصل جديد من فصول القهر والعنف ، استقبله العسكري الجالس أمام مكتب الضابط بسؤال تشوبه نبرة اتهام :" رايح فين يا اخينا " أجابه العامل بسذاجة أنه تعرض لاعتداء بدني ، فههده العسكري أنه إن لم يذهب لحاله فسيقبض عليه ثم يتلقى وصلة ضرب من قبل المخبرين بالقسم لإجباره على الاعتراف بالسرقة ، ولم يتوان في سبيل ذلك بسبه بألفاظ بشعة ، سمع الضابط الحوار من داخل حجرته فخرج ليستطلع الأمر ، ربما لتمتعه بالفراسة شعر أنه مظلوم فأدخله مكتبه وحرر له محضراً ووعده بأن سيتحرى الأمر وسيستدعي الشاب ..
ولكن من وقتها ـ وكما هو متوقع ـ لم يحدث اي جديد وضاع حق العامل بسبب هروب الشاب وعدم عثور المخبرين عليه ، والأكيد أنه يعطيهم رشوة في كل مرة حتى لا يقبض عليه فوالده يعمل بإحدى دول الخليج ، ثم تبين بعدها أنه يتعاطى المخدرات وقد يكون هو السارق وأراد تلفيق التهمة للعامل ليتخفى من أفعاله المشينة .
هل يمكننا تخيل الأثر السيء الذي تتركه مثل هذه الحادثة على إنسان بسيط لا حول له ولا قوة ! متى يتحقق الخلاص ؟ كيف ننجو بأنفسنا من آثار العنف والقهر الذي يمارس ضدنا كل يوم كمواطنين بسطاء ؟ متى تتحقق لنا العدالة والكرامة والحرية ؟ متى؟؟؟؟؟؟؟

هذه المقالة كتبت في شهر أغسطس 2010